أحمد سيف حاشد
جاءني اتصال شاحب.. صوته يتهدج ويقطر دما.. غصة تذبحه بقسوة.. حشرجة باذخة بالحزن وتموج بالاختناق.. هرعت للمكان.. إنها "سيلة" عدن..
وفي المكان شاهدت مقاومة البساطين والباعة تستميت من أجل حقها في العيش والبقاء.. ضياع وتيه يحاصرهم، ولكنهم لا يستسلمون ويصرون ألا يكونوا للتماسيح فريسة..
شاهدت حطاما وحلماً مهشماً ومثقلاً بالحزن، ورجاء لم يسمعه المسئولون.. ولكن شاهدت أيضا حياة تستبسل وتستميت في وجه القمع تتحدى الموت..
ثلاث مرات تحرق بسطاتهم ومفارشهم، وكلها على الأرجح كانت بفعل فاعل.. نكبات تلقي على كواهلهم ثقل الجبال.. ممتلكات عزيزة عليهم تأكلها النيران في سويعات وتحولها خرائب ورماد.. كل حريق نائبة تقسم الظهر.. وفي كل مرة يعدهم المسئولون بالتعويض ولا يعوضهم أحد بشيء.. فيعود الباعة والبساطين في كل مرة ليكدوا من جديد.. يبعثون الأمل من تحت الرماد عنقاء وحياة.. إنها معركة ضروس يخوضها هؤلاء من أجل البقاء والحق في مصدر رزق كريم..
شاهدت الباعة والبساطين يتصدون لهم.. يخوضون معركة وجود وحياة.. نكون أو لا نكون.. كانوا يدافعون عن أنفسهم من تماسيح تريد أن تلتهمهم وتلتهم المكان.. كان صراخهم من نار ينازع من أجل البقاء، وكلماتهم ممتلئة بالوجع، وتجربتهم تعرف ما سيكون عليه الحال إن استكانوا أو تخاذلوا أو تخلوا عن المقاومة.. كل مفردة سمعتها منهم كانت قنبلة حق يلقونها في وجه الباطل الذي يريد أن يبتلعهم ويجهز على كل أمل يبحثون عنه..
استغل تماسيح البسط والفيد خليجي عشرين وقبضة الحديد التي كانت تخنق عدن وناسها الطيبين.. جاءت الشرطة التي كانت على الأرجح منسقة معها.. يااااه كم كانت قاسية.. أي شرطة هذه التي تخدم الشعب وهي تحمل كل هذه الكم من القسوة وانعدام الضمير.. أين تعلموها ومن أين أتوا بها ..؟!!
كانت ليلة ثقيلة بالنسبة لي ومحتشدة بالأسئلة.. من أي عالم يأتون بمثل هؤلاء الذين لا يميزون بين حق وباطل ولا بين مجرم ومنكوب.. ؟!
لماذا يعوز هؤلاء عقول تفكر عندما تلح الحاجة إلى التفكير..؟! أين يودعون عقولهم عندما يؤمرون ؟! أليس لديهم ضمير يصرخ وينتفض عندما يستبيح فرعون الدار ويذبح الحق ويصنع من ضحاياه عرش وهرم.. هل يكفي لأربعون ألف ريال وهي فتات الفتات أن تصنع هذا القدر الداهم من العمى والعجرفة والقسوة ..؟!
شاهدت مثل أولئك الرجال من الشرطة عندما تم إحراق بيوت المهمشين في منطقة عصر في العاصمة صنعاء قبل سنين.. وشاهدت مثلهم عندما كنا معتصمين مع أبناء الجعاشن أمام قسم العلفي في صنعاء قبل شهور.. كما شاهد مثلهم الشاعر الزبيري الذي هجا العسكري يوما وقال: (العسكري بليد للأذى فطن.. كأن إبليس للطغيان رباه)- مع احترامي لكل العساكر الذين يفكرون عندما يؤمرون..
أي شرطة هذه وأي أمن هذا الذي لم يبق لديه بقايا ضمير حتى عندما تكون الحاجة له شديدة والظروف إليه ملجئة..؟!
مشهد صادم.. لطمة من قبضة عسكري تفتح أخدود في وجه بساط مسالم كان قائما على بسطته.. دمعة تتمرد في محجر العين وتسيح بصمت كتوم.. كم أنتِ أيتها الكرامة مهدورة في بلد يزعمون أنه مملوء عدلا وكرامة.. كم هي المفارقة شاسعة وقاتلة..
كيف أوغرت نفوسهم بكل هذه القسوة والحقد.. لا يمكن لرجل أمن معافى أن يتصرف على النحو الذي رأيتهم به يتصرفون.. رأيتهم يتعاونون ويتناوبون على ضرب شاب بقسوة.. تساءلت : ماذا يحصل هؤلاء الجنود مقابل ما يقومون به من بشاعة ؟! رواتبهم لا تزيد عن صدقه عجوز في بلاد الله الواسعة.. بل أن مال كل الدنيا لا يكفي لتبرير بشاعتهم وأفعالهم التي تثير الجزع والقرف والغثيان.. لماذا لا يضعون للحقوق وزن، ولا يضعون لآدمية الإنسان أي اعتبار...!!
رأيتهم لا يكتفون بضربه بل ويمكنون التماسيح من ضربه وافتراسه والنيل منه.. كنت أتسأل : هل ما يحدث مقابل ثمن.. وأي ثمن يفعل هذا.. هل يبلغ الارتزاق هذا الحد، وهل قلب المأجور من حديد ليفعل كل هذا؟!
كان العسكر كُثر وكل جماعة لديها وليمة.. والوليمة ضحية يتناهشونها ثلاثة أو أكثر من رجال الشرطة.. يهينوها ويستبيحون آدميتها ويوسعوها ضربا واعتداء واستباحة.. رأيت كرامة الناس هناك شظايا وأشلاء مبعثرة فيما كان المسئولون في عدن يحتفون بنجاح خليجي عشرين.. آه كم كنت وبالا وكم ستكون وبالاً على مستقبل اليمن يا خليجي عشرين وقد أمتلئ بك الزعيم فرعنة وغرورا..
اعتدت الشرطة على الكثير دون تمييز.. اعتقلت البعض وتم الذهاب بهم إلى قسم شرطة كريتر وفي قسم الشرطة راعني ما شهدت.. مال الضابط المحقق كقامة عبد أمام سيده.. رمى بالضحايا في السجن وأطلق الجناة.. كل شيء بدا لي معد ومرتب بين الشرطة والضابط والتماسيح..
هؤلاء الذين يسمونهم رجال أمن هم من يستبيحون الأمن ويقلبون الضحية إلى جاني والجاني إلى ضحية ويبدون سادة فوق القانون.. أمور لا تحصل بهذا القدر من الفظاعة والإفراط إلا في بلاد مثل اليمن..
كل يوم يتكرر المشهد وكل يوم حافل بألف مشهد من هذا القبيل.. شرطة كثيرا ما تكون "زعررتها" و"عنطزتها" وقسوتها على المواطن البسيط، فيما هي أمام عصابات الأرضي وتجار الموت ومافيا الفساد فئران وأرانب لا تغني عن حال..
وختاما لا يفوتني أن أشكر وكيل محافظة عدن أحمد الضلاعي الذي وعد بمتابعة التعويض ورجلين قابلتهم في الشرطة هما العميد سعيد محمد سعيد والعقيد علي العودي الذين تفهموا ما نقلته لهم وقاما بالإفراج عن المجني عليهم في نفس الليلة وتعاطوا مع شكاويهم بمسؤولية وبعض الاهتمام..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق